الكتاب الأول

الكتاب الأول

  • 196
  • 2021/10/21 11:14:03 م
  • 0

 لطفية الدليمي

مع أوّل كتاب لمسته يداي- غير كتب المدرسة – فغمت أنفي رائحة التبغ الخام، ممتزجة برائحة الكتب الصفراء - الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيج من روائح كانت تفور من نبع سرّيّ في حجرة معتمة تسلّلت إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبّب عرقا وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب.

ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة إحدى الحجرات المحيطة بالفناء. تسللت وراءه من باب الحجرة التي كانوا يحرمون علينا دخولها نحن البنات الصغيرات - وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز - فرأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة. ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كان هناك سرّ الأسرار ومجمع الغوايات كلها، ولهذا حظر على البنات دخولها، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقّع بضوء الكوّة السماوية: ألف ليلة وليلة، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تحيط بي وتضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف المخيلة.. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟ تساءلت ابنة السنوات التسع وشرعت تبحث عن إجابة..

تصفحت الكتاب السميك الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتضافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد الرقيق المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبية الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي.. في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، كنت أتعرّف إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال والرؤى في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة: عبق التبغ المرّ وخفة شذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية.. وبدأت أقرأ وتسمرت أمام أحداث الحكاية –الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحى بهن على مذبح شهوات ملك عاجز.

أعلى